فاطمة - زوجة
أتذكركم كان يتوق إلى نهاية الحرب وعودة الأمان إلى المناطق التي غادرناها قسراً، وإلى جمع شمل أحبائنا وجيرانا مرة أخرى، كما أذكر عنه حديثه عن الفتنة التي عصفت بالبلد وتركت الجميع خاسراً.
كما أذكر كم كان يحب جيرانه ويتردد عليهم في أوقات فراغه. وكانت كلما سنحت له الفرصة يذهب الى البحر للسباحة، قرب مكان سكننا في الأوزاعي، إذ كان يحب البحر والسباحة كثيراً. وكان أحياناً يخرج مع زملائه في العمل، خاصة إلى ملتقى النهرين حيث يأخذون معهم "اللحم بعجين" ويقضون أوقاتاً ممتعة. كما كان يحب قضاء الوقت مع الأولاد والمزاح معهم، فقد ترك لي ولأولادنا الكثير من الذكريات الجميلة عن الرحلات التي كان يصطبحهم بها سواء الى البحر، أو الى الروشة حيث كان يتنزه معهم، أو الى دير القمر حيث كانا نقضي الأمسيات مع أقاربنا قبل أن تمنعنا الحرب من ذلك.
ما أفتقده كثيراً هو الأعياد التي كانا تقضيها برفقته وبرفقة الأولاد. فلا زالت أتضايق اليوم، وأبكي أحياناً، في المناسبات التي كان من الممكن أن نقضيها معه، وأكثر ما كان يحزّ في نفسي رؤية أولادي يقضون العيد وحدهم في حين أن جيرانهم وأصحابهم يمضون العيد برفقة عائلاتهم. إذ كان يحب الأعياد ويسعد بقدومها، وأذكر كيف كان يأتي الى المنزل حاملا معه مختلف الأغراض والحلويات، ثم يصطحب الأولاد في السيارة لتمضية العيد معهم أو أخذهم في نزهة الى الروشة. وما أذكره أيضاً هو أننا كنت وامرأة عمي نصنع حلوى العيد ولكن منذ اختفائه لم نعند نصنعه وبات نهار العيد يوماً مشؤوماً في منزلنا.
حاولت اقتفاء أثره، فذهبت الى الهرمل وسألت عنه. وهناك، التقيت بالأشخاص الذين أقلّهم، فقالوا لي أنه تابع طريقه الى بعلبك. كانت كل ما أسأل عنه في مكان ما يتم ارسالي الى مكان آخر قد أجده فيه. وهكذا، تنقلت بين الهرمل وبعلبك وجلالة ومجدليون...الخ. قصدت بعض الأشخاص النافذين، فكانوا إما يطلبون مني أن أعود في اليوم التالي، أو يرسلون كتاباً إلى شخص آخر ليهتم بقضيتي، ولكن دون جدوى. وقد كانت أكثر كلمة سمعتها خلال رحلتي "تعي بكرا"، ودائماً كنت أعود في اليوم التالي لأجد أن الأشخاص الذين تكلمت معهم في اليوم السابق غير موجودين وبدلاً منهم أشخاص آخرون لا يعرفون شيئاً عن مصير زوجي. وكنت أقوم بذلك كله تحت القصف تارة وتحت المطر تارة أخرى، ودائماً ما كنت أعود من رحلة البحث عن زوجي خائبة أو باكية.
وقمت بالعديد من الزيارات الى سوريا أيضا بحثاً عنه، إلا أنها كانت كلها عبثاً.
وكان لاختفاء ديب أثراً نفسياً كبيراً على العائلة. فمنذ رحيله، تراجعت الحالتي الصحية بعدما تأثرت نفسياً كثيراً، وتعبت جداً في البحث عنه. أما ولدي، فقد انتابه انهياراً عصبياً ومرضاً في الأعصاب، وقد كان يحلم بأبيه مراراً في أولى فترات اختطافه. كما تأثر أخوة ديب وأمه باختفائه كثيراً. فأمه التي فارقت الحياة منذ خمس سنوات، ماتت وهي تردد اسمه، بعد أن ابيضت عيناها من البكاء عليه. أما أخاه، فلم يتوقف عن البكاء عليه الى حين مماته.
كما كان لاختفاء ديب أثرا مادياً علينا، فقد عمدت إلى بيع الخضار قرب المنزل لفترة وجيزة لإعالة أولادي، بدأ بعدها ابني الصغير بالعمل لمساعدتنا. كما أنفقنا الكثير على محاولات البحث عنه، فقد لجأنا الى بيع السيارة والذهب.
لم أتوان عن المشاركة في التظاهرات والاعتصامات التي نظمت للضغط من أجل قضية المفقودين، إلا أنني ومنذ سنتين إلى الآن، لم تعد حالتي الصحية تسمح لي بذلك. ولكن أهالي المخطوفين بعد كل ما مروا به سوياً أصبحوا كأسرة واحدة.
واذا رأيته مجدداً كنت لأقول له "الله يجمعنا فيك بأقرب وقت أنت وكل مفقود. ان شاء الله بترجعوا ع بيوتنا وع قلوبنا. رجعتك عندي بتسوى الدنيا".